يقول المولى تبارك وتعالى في سورة البقرة 186: واذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون
اذا تأملنا الآيات الكريمات اللواتي سبقن هذه الآية العظيمة لوجدناها آيات الصيام, هذه العبادة الوحيدة التي قال عنها الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الجليل: الصوم لي وأنا أجزي به.
وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد الحديث عن الصيام ليكافئنا الله عزوجل بليلة الجائزة الكبرى وهي ليلة العتق من النار, فكما ورد في الحديث أنه عند صلاة الفجر وصلاة العيد تقف الملائكة في طرقاتنا ونحن ذاهبين لصلاة الفجر وصلاة العيد تبشرنا بمغفرة الله عزوجل بعد صبر وجهاد ومجاهدة طيلة شهر كامل: والصبر ليس له جزاء الا الجنة أو كما قال سيد المرسلين صلوات ربي وسلامه عليه.
لو تأملنا جميع الآيات الكريمة الواردة في القرآن الكريم بلفظ التساؤل, وبكلمة يسألونك لوجدنا كيف أن كلمة يسألونك يتبعها كلمة قل ..والمعنى يسألونك يا محمد.... قل لهم..... ولهذه الآية الكريمة أكثر من مناسبة نزول, فقد سأل الناس عن الله عزوجل, والسؤال هنا لم يكن عن الذات الالهية, وانما عن شأن من شؤونها , وقوله تعالى في الجواب على التساؤل: فاني قريب , ليدل على أنهم سألوا عن جهة القرب أو البعد, ولم يصدر الجواب من المولى عزوجل كما في تساؤلات أخرى واردة في آيات كثيرة أخرى بكلمة: قل أو فقل على نحو ما هو في سورة البقرة كما في الآية189, قوله عزوجل: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج... وفي الآية 217 قوله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه , قل قتال فيه كبير.. وفي الآية 215 قوله تعالى: يسألونك ماذا ينفقون, قل ما أنفقتم من خير فللوالدين.. وفي الآية 219 قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر, قل فيهما اثم كبير... وفي الآية 221 قوله تعالى: يسألونك عن المحيض , قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ...بل تولى المولى تبارك وتعالى الجواب بنفسه اشعارا بفرط قربه عزوجل منا نحن عباده, وحضوره مع كل سائل, بحيث لا تتوقف اجابته على وجود واسطة بينه عزوجل وبين السائلين من ذوي الحاجات.
قال الامام شيخ الاسلام ابن تيميه رحمه الله عن هذه الآية الكريمة: وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه, مهيمن عليهم , مطلع اليهم, فدخل في ذلك الايمان بأنه قريب من خلقه...تماما كما في قوله عزوجل في سورة ق 16: ونحن أقرب اليه من حبل الوريد
وكما في الصحيح: أن الذي تدعونه أقرب الى أحدكم من عنق راحلته.
وما ذكر في الكتاب والسنة من قرب لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته, فانه سبحانه وتعالى كما وصف نفسه الكريمة والجليلة في سورة الشورى 11:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
.
في آية الدعاء هذه الآية الكريمة , لم يجعل الله عزوجل نبيه صلى الله عليه وسلم وسيطا فيما بينه سبحانه وتعالى وبيننا نحن عباده , وما ذلك الا ليشعرنا الله عزوجل على أنه قريب الينا بل وأقرب الينا من حبل الوريد, وليشعرنا أنه معنا كيفما قمنا وجلسنا وتقلبنا وتحركت شفاهنا بذكره سبحانه وتعالى, وكيفما همست قلوبنا وخشعت لجلال وجهه وعظيم سلطانه, وليشعرنا أنه عزوجل يعلم السر والعلن وما تبديه أنفسنا وما تخفيه, فهو علام الغيوب وعالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير بأحوال عباده.
فليستجيبوا لي: الاستجابة هنا معناها : اذا كنت أنا ربكم والغني عنكم , وأجيب دعاؤكم وأنتم الفقراء الي, وأنتم تدركون هذه الحقيقة, اذن فلم لا تستجيبوا لدعوتي اليكم بالايمان بي وبطاعتي الطاعة التي أرضاها لكم وأتقبلها منكم؟ فداوموا على الايمان لتكونوا من السعداء الراشدين في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم.
وهذا ارشاد من الله تبارك وتعالى الى الاجتهاد في الدعاء كل يوم من أيام شهر رمضان الكريم وعند كل فطر كما في الحديث الشريف: ان للصائم عند فطره دعوة ما ترد.. وقد ورد أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يدعو بهذا الدعاء الجميل:
اللهم أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي
.
سبب نزول هذه الآية العظيمة
انّ لهذه الآية العظيمة آية الدعاء أكثر من سبب نزول, منها:
* أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه, أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية الكريمة.
* ومنها عن الحسن رحمه الله قال: سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين ربنا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة.
* ومنها ما قاله عطاء بن واصل رحمه الله لما نزل قوله تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم.. قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعوا؟ فنزلت.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه...تماما كقوله عزوجل لموسى عليه السلام: اني معكما أسمع وأرى.
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ان الله ليستحيي أن يبسط العبد اليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبتين.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يدعو الله عزوجل بدعوة ليس فيها اثم ولا قطيعة رحم الا أعطاه الله بها احدى ثلاث خصال: اما أن يعجل له دعوته, واما أن يدخرها له في الآخرة, واما أن يصرف عنه من السوء مثلها.
وروى مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع باثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل.. قيل يا رسول الله! وما الاستعجال؟ قال عليه الصلاة والسلام: يقول قد دعوت , وقد دعوت, فلم أر يستجاب لي, يستجاب عند ذلك ويدع الدعاء.
وفي الحديث: ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عزوجل دعوة الا أتاه الله اياها , أو كفّ عنه من السوء مثلها, ما لم يدع باثم أو قطيعة رحم
وجاء عنه عليه الصلاة والسلامأنه قال: القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض, فاذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالاجابة., فانه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل.
شروط استجابة الدعاء
لنعد الى الآية الكريمة مرة أخرى: واذا سألك عبادي عني فاني قريب أجب دعوة الداع اذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون
من هذه الآية الكريمة نستخلص شرطان لاستجابة الدعاء: هما الاستجابة والايمان
ومن هذين الشرطين نستخلص شرطا ثالثا يشكل ثلث الاسلام يقوم عليه ألا وهو تحري الحلال في معيشتنا. وسنتناول هذه الشروط الثلاثة باختصار شديد فقط من باب التذكير ليس الا.
الأول: الاستجابة لله تبارك وتعالى
وتتحقق بكل ما جاء به القرآن الكريم من أوامر ونواه وحدود, نحلل ما أحله القرآن ونحرم ما حرمه القرآن ونأتمر بأوامره تعالى وننتهي عن نواهيه وزجره, ونطبق حدود الله تعالى في القصاص والزنا والسرقة وقذف المحصنات الغافلات والخمر والربا وما الى ذلك من حدود... وعلى رأس كل تلك الواجبات الصلاة لأنها عمود الدين وعموده, وهي أول ما نحاسب عليه من العمل في الآخرة والقبر أولى منازلها الصلاة, لقوله عليه الصلاة والسلام: أول ما يحاسب عليه من عمله صلاته, فان صلحت فقد أفلح وأنجح, وان فسدت فقد خاب وخسر, فان انتقص شيء من الفريضة يقول الله تعالى: انظروا لعبدي هل له من تطوع؟ فيكمل به ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله كذلك.
وعلى هذا يجب أن نقيم الصلاة على الوجه الأكمل الذي يرضي الله عزوجل, والله تعالى لا يرضيه الا اذا أقيمت الصلاة في بيوته امتثالا لقوله تعالى في سورة التوبة 18: انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وامتثالا لقوله في سورة النور 36:
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه
أي اقامتها بشروطها ورأركانها وفروضها وسننها وركوعها وسجودها واطمئنانها, اي على الوجه الأكمل الذي يرضي الله سبحانه وتعالى لا على الوجه الذي يرضي مؤديها فينقرها نقرا كالمسيء صلاته الذي يصلي بلا خشوع وكأنه يؤدي عملا يريد الخلاص منه, حتى اذا وافاه الأجل يكن كمّن لا أقام الصلاة ولا حتى صلى لقوله صلى الله عليه وسلم: أشد الناس سرقة الذي يسرق من صلاته, قيل يا رسول الله: وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتمّ ركوعها ولا سجودها, ولا القراءة فيها.
وكقوله عليه الصلاة والسلام في حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه: ان الله لا ينظر الى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده.
وهذا النوع من الصلاة صلاة العجلة التي واكبت عصر السرعة التي نعيشها يكاد أن يكون متفشيا بين مسلمي العصر الحديث بصورة منقطعة النظير, حيث لا يكاد أحدنا يدخل في صلاته حتى يسلم منها, على حين نجده على استعداد أن يجلس أمام شاشة التلفاز أو الكمبيوتر بالساعات بلا كلل أو ملل, لأجل ذلك كانت هذه الأجهزة وغيرها اذا ألهت أو حدّت من الخشوع تكون أدوات شرك بالله تعالى والعياذ بالله, وكثير من المسلمين غافل عن هذه الناحية, وكم نخشى أن يطبق علينا قوله تعالى في نهاية سورة الكهف: قل هل ننبئكم بال×سرين أعمالا* الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
وعن صلاة المنافق ورد عنه صلى الله عليه وسلم بمن لا يصلي الفجر في وقته: تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى اذا طلعت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها الا قليلا.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بأصحابه ثم جلس, فدخل رجل فقام يصلي فجعل يركع وينقر سجوده, فقال عليه الصلاة والسلام: ترون هذا لو مات, مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم, ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم.
الشرط الثاني: الايمان بالله تعالى ايمانا مطلقا
بحيث يصل الواحد منا بايمانه الى درجة الاحسان, والاحسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه هو: أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك,اذا وصلنا بعلاقتنا مع الله تبارك وتعالى الى درجة الاحسان في العبادة فلن يقوى عدو على مواجهتنا, وسنفوز في الدارين الدنيا والآخرة وندخل الجنة باذن الله دون حساب ولا سابقة حساب, لأنّ الاحسان أعلى مراتب العبادة.
الشرط الثالث: تحرّي الحلال في معيشتنا
وعلى هذا الشرط كما ذكر بعض المفسرون يقوم ثلث الاسلام, ذلك أن الكسب الحرام يبطل العمل, وقد ورد عن النبي صلى عليه وسلم أن اللقمة الحرام نقذفها في أفواهنا فلا يقبل لنا صلاة أربعين صباحا, لقوله صلى الله عليه وسلم لخادمه أنس بن مالك رضي الله عنه: يا أنس ! أطب كسبك تجب دعوتك..فانّ الرجل ليرفع اللقمة من الحرام الى فيه فلا يستجاب له دعوة أربعين يوما ... وهذا معناه أننا اذا تناولنا الحرام بأي وجه من وجوهه ومات الواحد منا خلال هذه هذه الأربعين يوما, يكون قد مات على غير ملة الاسلام, لماذا؟ لأنه يكون قد مات وهو تارك للصلاة, وتارك الصلاة كافر بنص الحديث الشريف: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر
وجاء عنه عليه الصلاة والسلام: من نبت جسده من سحت (مال حرام) فالنار اولى به.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدنيا حلوة خضرة, من اكتسب فيها مالا من حله وأنفقه في حقه أثابه الله وأورثه جنته, ومن اكتسب فيها مالا من غير حله وأنفقه في غير حقه أدخله الله تعالى دار الهوان, وربّ متخوّض ( آكل) فيما اشتهت نفسه من الحرام له النار يوم القيامة.
وروى البيهقي رحمه الله باسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: انّ الله قسّم بينكم أخلاقكم كما قسّم بينكم أرزاقكم..وانّ الله يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحب, ولا يعطي الدين الا من يحب, فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه, ولا يكسب عبد مالا حراما فينفق منه فيبارك له فيه, ولا يتصدق منه فيقبل منه, ولا يتركه خلف ظهره الا كان زاده الى النار, انّ الله لا يمحو السيء بالسيء, ولكن يمحو السيء بالحسن.
وقد روي في الحديث أن ملكا على بيت المقدس ينادي كلّ يوم وكل ليلة: من أكل حراما لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا... والصرف هي النافلة والعدل هو الفريضة.
وقال عليه الصلاة والسلام بحديث رواه الامام أحمد رحمه الله: من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفي ثمنه درهم من حرام لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه...أي مادام الثوب عليه.
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: لأن أرد درهما من شبهة أحبّ اليّ من اتصدق بمائة ألف درهم.
وأختم بحثي هذا بحديث بنبوي صحيح عليه يقوم ثلث الاسلام , فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم قال:
انّ الحلال بيّن والحرام بيّن, وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس, فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه,
ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام, كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه, ألا وإنّ لكل ملك حمى , الا وإنّ حمى الله محارمه , ألا وإنّ في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله, واذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب
.
سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين* والحمد لله رب العالمين